شدنى موضوع كتبه أخانا الكريم أبو عاصم عن التحقق من الأحاديث قبل كتابتها .... وأكتب سلسلة من الأحاديث الواهية والتى يتناقلها العامة ونضع صحتها :
قصة هادى الامة بعد النبى عليه الصلاةوالسلام
أولاً: المتن:
يُرْوَى عن أنس أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، من يلي حساب الخلق ؟ فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «الله تبارك وتعالى». فقال الأعرابي: «هو بنفسه؟» قال النبي صلى الله عليه وسلم : «نعم»، فتبسم
الأعرابي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ممَّا ضحكت يا أعرابي ؟». فقال الأعرابي: «إن الكريم
إذا قدر عفا وإذا حاسب سامح». فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «صدق الأعرابي، ألا لا كريم أكرم
من الله تعالى هو أكرم الأكرمين، ثم قال: فقه الأعرابي».
ثانيًا: التخريج والتحقيق:
1- الحديث الذي جاءت به هذه القصة الواهية أورده أبو حامد الغزالي في كتابه
«إحياء علوم الدين» (4/146) قال: وفي الحديث الطويل لأنس: «أن الأعرابي قال: يا
رسول الله، من يلي حساب الخلق؟» القصة.
2- قال الإمام الحافظ العراقي في كتابه «المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في
تخريج ما في الإحياء من أخبار» (4/146): «حديث أنس الطويل قال أعرابي يا رسول
الله من يلي حساب الخلق؟» الحديث لم أجد له أصلاً.
ثالثًا: معنى مصطلح «الحديث لا أصل له»:
قال الإمام السيوطي في «تدريب الراوي» (1/297): «قولهم هذا الحديث ليس له أصل
أو لا أصل له، قال ابن تيمية: معناه ليس له إسناد».
ومصطلح «لا أصل له» لا يقبل إلا من الحافظ المطلع الناقد، ويرادفه قولهم: «لم
أقف له على أصل»، «لم أجد له أصلاً»، «لم أقف عليه»، «لا أعرفه بهذا اللفظ»،
«لم أره بهذا اللفظ»، «لم أجده»، «لم أجده هكذا»، «لم يرد فيه شيء»، «لا يعلم
من رواه ولا إسناده»، «لا أعرفه»، «لم أعرفه».
فهذه العبارات إذا صدرت من أحد الحفاظ المعروفين ولم يتعقبه أحد كفى للحكم على
الخبر بالرد، ففي «تدريب الراوي» (1/296، 297)، قال السيوطي: «إذا قال الحافظ
المطلع الناقد في حديث «لا أعرفه» اعتمد ذلك في نفيه»، ثم قال السيوطي: «لأنه
بعد تدوين الأخبار والرجوع إلى الكتب المصنفة يبعد عدم الاطلاع من الحافظ
الجهبذ على ما يورده غيره».
رابعًا: لفظ آخر لقصة الأعرابي والمحاسبة.
ولهذا اللفظ اشتهرت القصة وانتشرت على ألسنة القصاص والوعاظ، ومما ساعد على
انتشارها أن البعض يتقرب إلى الله تعالى بطبع هذه القصة الواهية وتوزيعها على
الناس في المساجد والطرقات ومن الطبعات التي وصلت إلينا حول هذه القصة وجدنا
مكتوبًا في نهاية القصة هذه العبارة: «اللهم اغفر لكل من نقلها ونشرها ووالديه
ولا تحرمهم الأجر يا كريم».
قلت: انظر كيف وصل الحد إلى ترويج هذا الكذب، ولم يدر من يفعل ذلك أنه داخل تحت
الوعيد في قوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَدَّثَ عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
رواه مسلم.
هذا حكم من سكت عن الأحاديث الضعيفة في الفضائل ! فكيف إذا كانت في الأحكام
ونحوها؟
واعلم أن من يفعل ذلك فهو أحد رجلين:
1- إما أن يعرف ضعف تلك الأحاديث ولا ينبه على ضعفها، فهو غاش للمسلمين، وداخل
حتمًا في الوعيد المذكور، قال ابن حبان في كتابه «الضعفاء» (1/7 - 8): «في هذا
الخبر دليل على أن المحدث إذا روى ما لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما تقول عليه وهو يعلم
ذلك يكون كأحد الكاذبين، على أن ظاهر الخبر ما هو أشد قال صلى الله عليه وسلم : «من روى عني
حديثًا وهو يرى أنه كذب». ولم يقل: إنه يتقن أنه كذب - فكل شاك فيما يروي أنه
صحيح أو غير صحيح داخل في ظاهر خطاب هذا الخبر».
ونقله ابن عبد الهادي في «الصارم المنكى» (ص165- 166)، وأقره.
2- وإما أن لا يعرف ضعفها فهو آثم أيضًا لإقدامه على نسبتها إليه صلى الله عليه وسلم دون علم،
وقد قال صلى الله عليه وسلم : «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»، فله حظ من إثم الكاذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه قد أشار صلى الله عليه وسلم أن من حدث بكل ما سمعه، ومثله من كتبه، أنه واقع
في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لا محالة، فكان بسبب ذلك أحد الكاذبين، الأول: الذي افتراه،
والآخر: هذا الذي نشره، قال ابن حبان أيضًا (1/9): «في هذا الخبر زجر للمرء أن
يحدث بكل ما سمع حتى يعلم علم اليقين صحته». اهـ.
وهذه القصة الواهية التي يقومون بنشرها والدعوة إلى نقلها وانتشارها وهذا
لفظها:
بينما النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف إذ سمع أعرابيًا يقول: يا كريم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خلفه يا كريم.
فمضى الأعرابي إلى جهة الميزاب وقال: يا كريم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلفه: يا كريم.
فالتفت الأعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا صبيح الوجه، يا رشيق العد أتهزأ بي لكوني
أعرابيا ؟ والله لولا صباحة وجهك، ورشاقة قَدّك لشكوتك إلى حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم .
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما تعرف نبيك يا أخا العرب ؟ قال الأعرابي: لا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فما إيمانك به؟
قال: آمنت بنبوته ولم أره وصدقت برسالته ولم ألقه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا أعرابي، اعلم أني نبيك في الدنيا وشفيعك في الآخرة». فأقبل
الأعرابي يقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مه يا أخا العرب، لا تفعل بي كما
تفعل الأعاجم بملوكها، فإن الله سبحانه وتعالى بعثني لا متكبرًا ولا متجبرًا،
بل بعثني بالحق بشيرًا ونذيرًا فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد،
السلام يقرئك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك: قل للأعرابي لا يغرنك
حلمنا ولا كرمنا فغدًا نحاسبه على القليل والكثير والفتيل والقطمير».
فقال الأعرابي: أو يحاسبني ربي يا رسول الله؟
قال: نعم يحاسبك إن شاء.
فقال الأعرابي: وعزته وجلاله إن حاسبني لأحاسبنه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : وعلى ماذا تحاسب ربك يا أخا العرب ؟
قال الأعرابي: إن حاسبني ربي على ذنبي حاسبته على مغفرته، وإن حاسبني على
معصيتي حاسبته على عفوه، وإن حاسبني على بخلي حاسبته على كرمه.
فبكي النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتلت لحيته.
فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «يا محمد، السلام يقرئك السلام ويقول لك: يا محمد
قلل من بكائك فقد ألهيت حملة العرش عن تسبيحهم، وقل لأخيك الأعرابي لا يحاسبنا
ولا نحاسبه فإنه رفيقك في الجنة». اهـ.
خامسًا: التحقيق:
قلت: وعلامات الوضع ظاهرة على هذا الخبر الذي جاءت به هذه القصة الواهية بما
فيها من حديث نبوي منسوب كذبًا وبهتانًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبما فيها من حديث قدسي
منسوب كذبًا وبهتانًا إلى رب العزة.
وهذه العلامات من الوضع ظاهرة كما بينها الإمام ابن القيم في «المنار المنيف»
فصل (22) حيث قال:
أ- «وما يقترن بالحديث من القرائن التي يعلم بها أنه باطل»، فمن هذه القرائن
التي يعلم بها أن القصة باطلة:
1- حدوث هذا الحوار الطويل في الطواف.
2- وقول الأعرابي: «إن حاسبني الله لأحاسبنه».
3- إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا وبكاؤه صلى الله عليه وسلم .
4- حملة العرش ألهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن تسبيح ربهم.
5- هبوط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: «قل لأخيك الأعرابي لا يحاسبنا ولا
نحاسبه».
ب- وقال الإمام ابن القيم من علامات الوضع أيضًا: «أن يكون الحديث مما تقوم
الشواهد الصحيحة على بطلانه».
قُلْتُ: ولقد بينا من القرائن والشواهد في الحديث الذي جاءت به القصة ما يدل
على بطلانه وأن هذه القصة من وضع المتصوفة ولا أصل لها.
ثم قال الإمام ابن القيم من دلائل الوضع «مخالفة الحديث صريح القرآن».
أ- قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
ب- وقال تعالى: لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:
23].
سادسًا: صحيح ما جاء في المحاسبة:
في قصة عائشة رضي الله عنها:
قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن عمر قال: حدثني ابن
أبي مليكة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى
تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حوسب عُذب» قالت عائشة: فقلت: أو ليس يقول الله
تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا قالت: فقال: «إنما ذلك العرض
ولكن من نوقش الحساب يَهْلِك».
قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري (ح103) وهناك بيان لبعض ألفاظه، حيث أخرجه
الإمام البخاري أيضًا (ح6537) قال: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا روح بن عبادة
حدثنا حاتم بن أبي صغيرة حدثنا عبد الله بن أبي مليكة حدثني القاسم بن محمد
حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك». فقلت:
يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 7، 8].
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما ذلك العرض، وَلَيْسَ أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة
إلا عُذب».
قلت: هذا الحديث أخرجه أيضًا الإمام البخاري في موضعين آخرين (ح4939) (ح6536)،
ومسلم (2876)، وأبو داود (ح3093)، والترمذي (2426)، (ح3337)، وأحمد (ح24255)،
(24823)، (25012)، (25765)، وبهذا يتبين:
1- الحديث متفق عليه حيث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم.
2- قال الإمام النووي في «شرح مسلم» (ح2876): «قوله في إسناد هذا الحديث: «عن
عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة» هذا مما استدركه الدارقطني على البخاري ومسلم
وقال: اختلفت الرواية فيه عن ابن أبي مليكة فروى عنه عن عائشة، وروى عنه عن
القاسم عنها، وهذا استدراك ضعيف لأنه محمول على أنه سمعه من القاسم عن عائشة،
وسمعه أيضًا منها بلا واسطة فرواه بالوجهين وقد سبقت نظائر ذلك». اهـ.
3- وهذا الموضوع في غاية الأهمية، حيث يظهر منه أن الإمام البخاري طبيب الحديث
في علله.
أ- في الحديث (6536) قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن عثمان بن الأسود
عن ابن أبي مليكة عن عائشة مرفوعًا به.
ب- ثم قال البخاري في نهاية هذا الحديث: حدثني عمرو بن علي حدثنا يحيى بن سعيد
عن عثمان بن الأسود سمعت ابن أبي مليكة قال: «سمعت عائشة رضي الله عنها قالت:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ... مثله».
جـ- قلت: انظر في السند الأول: ابن أبي مليكة عن عائشة في السند الثاني ابن أبي
مليكة قال: سمعت عائشة.
د- فعن في السند الأول لا تقطع بالسماع خاصة وأن هناك السند الثالث، قال ابن
أبي مليكة حدثني القاسم بن محمد حدثتني عائشة.
فيتوهم أن هناك سقطًا بين ابن أبي مليكة وعائشة، لذلك جاء الإمام البخاري
برواية وقع فيها التصريح بالسماع ليعالج الوهم الذي وقع في رواية العنعنة خاصة
وأن هناك رواية ثالثة فيها واسطة في السماع بين ابن أبي مليكة وعائشة.
م- لذلك قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (11/408): «وقد وقع التصريح بسماع ابن
أبي مليكة له عن عائشة في بعض طرقه كما في السند الثاني من هذا الباب فانتفى
التعليل بإسقاط رجل من السند، وتعين الحمل على أنه سمع من القاسم عن عائشة ثم
سمعه من عائشة بغير واسطة أو بالعكس، والسر فيه أن في روايته بالواسطة ما ليس
في روايته بغير واسطة وإن كان مؤداهما واحدًا، وهذا هو المعتمد بحمد الله ».
اهـ.
ن- هذا هو الإمام البخاري في دقة بحثه ليداوي السند حتى لا يتوهم أن به علة
وليحذر الذين لا دراية لهم بهذا العلم من الطعن في أمير المؤمنين في الحديث
الإمام البخاري بأقلام مسمومة على صفحات جرائدهم التي لا يهمنا ذكرها، ولا ذكر
الذين سولت لهم أنفسهم بذلك اتباعًا لأهوائهم، وجريًا وراء ظنهم، قال تعالى:
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ.
هـ- لا يعرف قدر البخاري في هذا العلم إلا أهله، ففي «البداية والنهاية»
(11/29) قال أحمد بن حمدون القصار: رأيت مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري، فقبل
بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وطبيب الحديث في علله
ثم سأله عن بعض الأحاديث فذكر له علتها فلما فرغ قال مسلم: «لا يبغضك إلا
حاسد».
و- هذا هو فقه حديث عائشة سندًا ومتنًا عندما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «ليس أحد
يحاسب يوم القيامة إلا هلك».
وأدب الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما نظرت إلى
الحساب المذكور في الآية ومن هنا نشأ الإشكال عندها فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم مستوضحة
الأمر في أدب جم فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم المراد: بأن الحساب يراد منه المناقشة، وفي
الآية يراد منه العرض على الله تعالى، وبالتالي فلا تعارض ولا إشكال لانفكاك
الجهة، إذ التعارض أو الإشكال إنما يكون إذا اتحدت الجهة ولا اتحاد هنا، وبهذا
يتبين منزلة السنة من القرآن، وتأتي شارحة للقرآن تفصل المجمل وتوضح المشكل
وتخصص العام وتقيد المطلق وتأتي بتشريع أحكام.
هذا ما وفقني الله تعالى إليه وهو وحده من وراء القصد.
************************
منقول من مجلة التوحيد العدد 424 بتصرف - الكاتب على حشيش