الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن هؤلاء الأئمة كانوا أكثر اطلاعا ممن بعدهم على صحة الأحاديث وضعفها، وعلى أحوال الرجال. والمتأخرون عالة عليهم، وأحكام المتأخرين على الحديث مبينة على أقوال من تقدمهم، وهؤلاء الأئمة لم يشترطوا في كتبهم أن يلتزموا بما صح من الأحاديث، وبإتيانهم بالأسانيد يعلم المطلع عليها بعد البحث حال الحديث من حيث القبول وعدمه، وقديما قال أهل العلم:
من أسند لك فقد أحالك. ثم إنه يتعين شكر من اهتم من المتأخرين بكتب هؤلاء الأئمة وحققها وبين صحيحها من ضعيفها، ولا مانع أن يحكم أحد من المحدثين بحكم على حديث، ثم يأتي من بعده فيتوصل بعد البحث إلى حكم آخر، ولم يزل هذا دأب أهل هذا الفن، فهذا الإمام
الحاكم تعقبه
الذهبي فصوب حكمه على كثير من الأحاديث، وقد تعقب
الذهبي بعض من تأخر عنه.
وأما سبب ذكر بعض الأئمة لأحاديث علموا ضعفها، فقد تكلم عليه
النووي في شرح
مسلم وهو يتكلم عن سبب رواية الأئمة لأحاديث الضعفاء والمتروكين:
فقد يقال: لم حدث هؤلاء الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا يحتج بهم؟ ويجاب عنه بأجوبة: أحدها: أنهم رووها ليعرفوها وليبينوا ضعفها لئلا يلتبس في وقت عليهم أو على غيرهم أو يتشككوا في صحتها. الثانى: أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر به أو يستشهد كما قدمناه في فصل المتابعات، ولا يحتج به على انفراده. الثالث: أن روايات الراوي الضعيف يكون فيها الصحيح والضعيف والباطل فيكتبونها ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض، وذلك سهل عليهم معروف عندهم، وبهذا احتج سفيان الثوري رحمه الله حين نهى عن الرواية عن الكلبي، فقيل له: أنت تروي عنه، فقال: أنا أعلم صدقه من كذبه. الرابع: أنهم قد يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال والقصص وأحاديث الزهد ومكارم الاخلاق ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلال والحرام وسائر الاحكام، وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فيه ورواية ما سوى الموضوع منه والعمل به؛ لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع معروفة عند أهله. وعلى كل حال فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئا يحتجون به على انفراده في الأحكام فإن هذا شيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين ولا محقق من غيرهم من العلماء .......اهـ
وقد نقل القاسمي في قواعد التحديث عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: قد يكون الرجل عندهم ضعيفاً لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه الغالب عليه الصحة فيروون عنه لأجل الاعتبار به والاعتضاد به، فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضاً حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجاراً وفساقاً، فكيف إذا كانوا علماء عدولاً ولكن كثر في حديثهم الغلط، وهذا مثل عبد الله بن لهيعة فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضياً بمصر كثير الحديث، ولكن احترقت كتبه فصار يحدث من حفظه فوقع في حديثه غلط كثير مع أن الغالب على حديثه الصحة، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به مثل ابن لهيعة. وأما من عرف منه أنه يتعمد الكذب فمنهم من لا يروي عن هذا شيئاً، وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب، لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار به والاعتضاد. ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب ويقول إنه يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهى عن الأخذ عنه، ويذكر أنه يعرف. ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيراً بشخص إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه وما كذب فيه بقرائن لا يمكن ضبطها، وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدق، وقرائن تدل على أنه كذب. انتهى